مقال كنت قد كتبته بمناسبة الذكرى الثانية لرحيل الفيقيد محفوظ ولد خطري حاولت من خلاله التطاول والكتابة في أبجديات حياة الرجل،
الذكرى الثانية لرحيل الفقيد محفوظ ولد خطري "وقفات على شاطئ بحر"
إن حياة الرجل بحر عميق لا قدرة لشخص مثلي على ركوب أمواجها وأكتفي بوقفات على شاطئ ذاك البحر".
ولد الفقيد في ثلاثينات القرن الماضي في بيت عز وكرم وصلاح، في فترة كان المستعمر الفرنسي يحكم قبضته فيها على المنطقة ويحاول بكل قواه مسخ هويتها الحضارية وثقافتها العربية، لكن أسرة الفقيد اختارت له طريق المقاومة حينها فبعثت به إلى المحظرة لينهل من ينبوعها ولم يخيب ظنها فيه فتنقل بين محاظر المنطقة متعلما متواضعا متفرغا للتحصيل العلمي ولا شيء غيره يشغله فلا وقت لمجالس اللهو عنده ولا ما شبهها، يقول عنه أحد معاصريه أن الصبية وطفحات الشباب لم يعرفا إليه سبلا، ونظرا لحاجة مجتمعه إليه غادر المحاظر سريعا بعد أن أخذ من مختلف علومها قرآنا وفقه ولغة....ليرتحل بعد ذلك بين مختلف المشيخات الصوفية في المنطقة مقتنيا منها التواضع وصفاء النفس،كل ذلك جعل منه شخصية متميزة وصبورة لا تكن الضين ولا الكره لأحد.
واجه أول امتحان له وهو لم يشتد عضده حين اعتقل أفراد من مجتمعه وحكم على بعضهم بأحكام قاسية في مالي حين كانت المنطقة كلها تحت سيطرة المستعمر، وكان قد رحل في أثرهم فعزم أن لا يعود إلا وهم معه فظل هناك يكابد قسوة ظروف الغربة وأجواء محاكم المستعمر وقد كان له بعون الله ما أراد في قصة لا تخلو من عون الله لعباده الصالحين، ليعود وقد طار ذكره في البلاد ولتفرض عليه المسؤولية نفسها ويدخل نادي الممثلين لمجتمعه وهو أصغرهم سنا لكن صغر سنه حينها وتاج المسؤولية لم ينزعا عنه ثوب التواضع واحترام من معه في ذك النادي، حتى وإن خالفوه، يقول أحدهم لقد كان خادما لنا في أسفارنا نحو ندوات المستعمر، وأحدنا حين يبدأ الحديث، فكان رحمة الله يقدر من كانوا معه في نادي " اشيوخ" وخصوصا أبناء عمومته، كان بحق خادمهم وخادم المجتمع من ورائهم وفارسهم حين يكون هناك ما يدعو لذلك.
وحين بدأت إرهاصات استقلال البلاد واجه الفقيد امتحانه السياسي الأول حين لم تحصل مجموعته على التمثيل في البرلمان الوليد لدى اختيار ممثليه محليا و هو ما أغضب الجميع وجعل بعضهم يغادر إلى مالي قاسما أن لا يعود إلى موريتانيا أبدا، وفي هذه الظروف الصعبة كان لا بد من أمرين لا ثالث لهما الرحيل نحو مالي ومال ذلك من أثر سلبي على وحدة البلاد والمجتمع أو خلق مكان جديد يجد فيه من بقي نوعا من الكرامة ومحاولة إقناع من رحل بالعودة، ثم فرضه بعد ذلك كمقطع إداري مستقل وقد وقع الاختيار على جكني التي لم يكن فيها إلا نخيل لمحمدن بن عبد الله ولد الب رحمه الله الأخ الأكبر لإمام جامع جكني حاليا وقد تحمس الكثيرون للفكرة وكان من بينهم الشيخ والصالح والطبيب أيد ولد بحي ولد محمد أحمد رحمة الله عليه الذي كان له السبق في وضع أول لبنة في المكان فكان بيته أول بيت في المدينة، ولكن تحدي كان كبيرا كبيرا... وخصوصا تحدي الاعتراف الإداري وقد كان تعاون المجموعة وحكمة الرجل مذللا لكل التحديات، فحين قام الرئيس الأسبق المختار ولد داداه رحمة الله عليه بأول زيارة للمنطقة وطلب مقابلة الفقيد رفض هو ومن معه أي جلوس مع الرئيس قبل أن يوافق على إعطاء الصبغة الإدارية للمدينة الوليدة وأن يعين لها مسؤولا إداريا ومعلما من أبنائها فكان له ولهم ما أرادوا و أصبحت جكني مركزا إداريا لتصبح بعد ذلك مقاطعة كغيرها من المدن رغم مخاضات عسيرة مرت بها في مراحلها المختلفة، كان للفقيد الدور البارز في تجاوزها.
ولم يقتصر دوره رحمة الله عليه على جكني بل كان رجل مجتمع ودولة لعب دورا بارزا في حل الصراعات وشد أواصل الألفة بين المكونات المختلفة للمجتمع ليس في موريتانيا فحسب بل في المنطقة كلها ونذكر من ذلك الدور البارز له في صلح كيفه الشهيرة ووضع بنود استمراره والدور الذي كان يلعبه في حل المشاكل مع دولة مالي....الخ
لم يكن رحمة الله عليه شغوفا بالمناصب ولا بجمع المال، لقد ظل تاركا المناصب الاعتبارية والانتخابية لمن معه، حتى أنه يخوض المعركة وحين يفوز بها يتنازل عن المنصب لمنافسه حين كان ذلك ممكنا في فترة الهياكل مثلا ولم يأخذ لنفسه أي منصب إلا حين تعددت المناصب، وكان رحمة الله عليه يخوض السياسة بنفس صافية معتبرا صراعاتها مرحلية وكان يقسم أنه لا يكن لأحد كرها، ولكن حين يقتنع بالمسألة يبذل فيها جهده وينتهي عنده الأمر بعد فراغه منها ونذكر في هذه الصدد شهادة الشيخ والعلامة محفوظ ولدبي رحمة الله عليه أنه حين دخل عليه الفقيد عائدا له في مرضه الذي توفي فيه وسأله أحد ممن معه هل عرفه قال نعم "ونعم الرجل الذي يخوض السياسة في النهار بلا كذب ويقوم الليل".
كان رحمة الله عليه محبا لهذا الوطن حريصا على استقراره وأمنه غير باخل بالنصح والصدق فيه لأصحاب الأمر ونذكر هنا نصحه لرئيس البلاد الحالي محمد ولد عبد العزيز و الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله حين التقى بكل منهم في ذروة الصراع بينهما، بأن تماسكهما فيه صمام أمن البلاد وأن اختلافهما قد يجر البلاد إلى متاهات قد لا تخرج منها وهي في غنى عنها،.
مفارقة غريبة في حياته السياسية رحمة الله عليه لقد بدأ حياته السياسية معارضا وختمها كذلك وكل ذلك من اجل وحدة هذا الوطن وحريته ورفضا للإقصاء ومصادرة قرارات هذا المجتمع .
لقد كان رحمة الله عليه عابدا حريصا على تأدية واجباته على الوجه الذي يرضي خالقه فأدى فريضة الحج باكرا، وكثيرا ما كان يحجز له مكانا في الصف الأول محافظا على الطهارة والصيام، عفيفا ما عرف الفحش قط، صدوقا وما شهادة الشيخ محفوظ عنا ببعيد، منفقا في السر قبل العلن- فحين توفي وجد أن هناك أسرا كان يخصص لها مبلغا شهريا دون علم أي أحد- ، منطلق في مواقفه المختلف من قاعدة استجلاب ما أمكن من المصالح ودرأ ما أمكن من المفاسد وأن مواقف الشخص في هذه الحالة تختلف بحسب مكانته التي يحتل في المجتمع، فالشخص المسؤول عن جماعة ليس حر في مواقفه كحرية الشخص المستقل بذاته، محبا للعلماء والصالحين ويمكن في هذا الإطار سرد قصتة مع محمد الحسن ولد الددو حفظه الله حيث جمعتهما الصلاة في أحد المساجد وبعد انتهاء الصلاة سأل الفقيد أحد الأخوة ا كان معه من هذا الرجل فقال له أنه الشيخ محمد الحسن فتجة الفقيد نحوه وسلم عليه وقدمه له أسمه وبدأ بتقديم التعريف فقال له الشيخ محمد الحسن يكفي الاسم وبعد تبادل التحية والسلام قال الشيخ محمد الحسن للفقيد أتشرف بزيارتكم فقال الفقيد لنا الشرف وكان ذلك في الفترة التي كان الشيخ محمد الحسن مضايق ومغضوب عليه من طرف نظام ولد الطايع، وحين بدأت الترتيبات لزيارة الشيخ لمنزل الفقيد بدأت الضغوطات من مختلف الإتجهات من وزير الداخلية حينها ومن قادة الحزب ومن مختلف أركان النظام لكن الفقيد أصر على استقبال الشيخ قائلا أنه لن يتراجع عن استقباله وليكن ما يكون وقد تمت الزيارة وحرص الشيخ على أن يأتي للفقيد بهدايا قائلا أن من يزور الصالحين عليه أن يقدم لهم شيئا.
وكان رحمه الله كل ما وجد فراغا بادر إلى هوايته المفضلة قراءة كتاب من علوم القرآن أو الحديث أو الفقه أو السير، وقل ما تجده إلا وبجنبه كتاب و سجادة، وكان له مع قيام الليل قصة حب وإدمان لا يمنعه منه إلا المرض الشديد ونرد هنا شهادة الفقيه والأستاذ بالمعهد العالي احمد باب ولد سيد بين لمتوني المعلم السابق بالبروك التابعة لمقاطعة جكني حيث يقول لقد قدم على الفقيه وكان موضع استقبال كبير وبعد يوم مليء بالعمل والتعب جهز له فراش نومه في نفس البيت الذي أنا فيه – حيث كان للمعلم مكانة خاصة- قلت في نفسي هل سيستيقظ لصلاة الصبح في وقتها أم أن تعبه من جهة و الاستقبالات التي كان محل لها ستضيع عليه ، ولكن يا المفاجأة في حين نام الناس وأشتد ثقل الليل انتصب الرجل قائما يصلي فعرفت حقيقته.
لقد كانت له رحمه الله شخصية اجتماعية منفتحة ومتميزة قد يتخيل إليك نظرا لمكانته أن لا مكان لك في مجلسه، ولكن حين تجلس إليه تجد العكس تماما فقد تجد فيه الصديق والتلميذ قبل المعلم والموجه و الأب، مهما كان عمرك ومستواك مهما كان تخصصك وموقفك سيحاورك حوار الصديق لصديقه بل قد يجعل منك معلما ليستفيد ما أمكن منك أو على الأقل بأن لا تحس و أنت في مجلسه بأي قدر من العزلة، يشجع كل من يجلس معه من الشباب على طلب العلم والاجتهاد فيه مقدرا لمن وجدت فيه تلك الصفة وكان في بيته رحيما متسامحا تاركا للجميع حريته في المواقف والآراء ...كانت تلك مجرد وقفات على شاطئ عميق.
وفي اللحظات الأولى من يوم الأحد 28 فبراير 2010 صعد ت روحها إلى السماء في مدينة العيون التي ليست بجكني بعيد، حيث الأهل والأحبة هنا أيضا، ليعاد بجسمه الطاهر ويغسل ويدفن حيث المولد والنشأة وأيام الصبا ، تمبدغة والميلحه، وبرحيله طوت موريتانيا صفحة أخرى من صفحات ألئك الرجال العظام الذي ساهموا وبقوة في إرساء دعائمها والدفاع عن حوزتها الترابية ووحدتها الوطنية ولعبوا دورا فاعلا في سيادة السلم الأهلي في كل مناطقها، وعم الحزن المنطقة كلها وامتلأت طرق جكني بمواكب المعزين وكذا بيته المتواضع بتوجنين ورثاه البعيد قبل القريب حيث يقول فى رثائه المفوض والشاعر محمد عبد الله ولد محمدو الملقب انكوده
شيخ أهل حاج عبد الرحمن **** شيخ لغلال محفوظ عين لعيان
اكبير الخيم و اصيت و اشان **** ولد سيد ولد خطر بيت مال
المسلمين وزريبت المــــان ***** امش وامش الكرم والتعدال
الحســان والفايد وامر ازمان ***ذ كامل امش افمحفوظ عاد قال
الرحمــه ياللــه والرضـــوان**** أل محفوظ والضاعيف لعمال
الصالحــه أنعيــم الجنــــــان ***** يالله و أراه بارك أفـــلعيــال
ألا اتل حد اعليـــه يعــــول ***** أفش كان لا اتسول و اتسال
متعدل إواسيه محفـوظ ول ***** سيد ولد خطر شيخ لغـــــلال
فنسأل الله العظيم أن يبعثه هو وجميع موتانا وموتا المسلمين في زمرة الأنبياء والصالحين و أن يجازيه عنا وعن المسلمين خيرا
بقلم الجيد ولد أحمد جدو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق